السبت، 17 ديسمبر 2011

هوية العولمة وعولمة الهوية

هوية  العولمة وعولمة الهوية

                                                      بقلم
                                                                           عمانوئيل يونان الريكاني



تعتبر العولمة إحدى حقائق العصر وظاهرة جديدة على مسرح التاريخ العالمي ،احتلتن مكان الصدارة في سوق التداول الفكري .ولها الأولوية في سلم استقطاب عقول المثقفين .فهي ظاهرة كونية وطفرة حضارية حققتها أنامل تكنولوجيا الاتصالات والثورة المعلوماتية ،وزخرفتها أصابع الأدمغة الآلية ووسائل الأعلام .أنها نقلة نوعية في بنية الواقع الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والأمنية ،تبدلت فيها خارطة العالم ومنطق الأشياء ،وتحول معها المشهد الكوني وطريقة الحياة .
لقد سحب البساط من تحت أقدام العالم القديم السائر نحو الاحتضار السريع حيث استنفذ طاقته على الخلق والبناء وذلك لانسداد في شرايين نظمه واليات اشتغاله التي تعيق حركة التقدم والنمو.وأعادت تركيب العالم وصناعة الحياة من أسس ومنطلقات وتقنيات جديدة حيث فتحت آفاقا جديدة للوجود والحياة ونوافذ عديدة للرؤى والنظر تغيرت العلاقة فيها بكل شيء ،بالمكان والزمان بالحقيقة والواقع بالكائن والفكر .وانصهر المكان التقليدي في بوتقة اختراقات الزمان الفعلي الذي يسير من بعد وبسرعة الضوء من خلال الأقمار الصناعية وشبكة الانترنيت .واكتسب المكان والزمان عالميتهما من خلال ردم الفجوة بين المحلي والكوني والداخل والخارج والمغلق والمفتوح ،وتقلصت مصالح العالم وانكمشت أبعاده وأتاحت تشكيل مدينة عالمية لا مركز لها ،متحررة من هندسة المكان وهي في نفس الوقت موجودة في كل مكان حيث لا غرباء فيها ولا عزلاء .بمجرد الضغط على زر تستلم الأخبار وتشاهد الحوادث من ابعد نقطة في الوجود ،وتستطيع أن تتجول كسائح في كل المرافق السياحية التي تستهويك وفي كل أنحاء الكرة الأرضية ،من خلال شاشة وأنت قابع في غرفتك ومتمدد على سريرك لا تتحرك من مكانك .من هنا يعلن فيريليو "نهاية الجغرافية "وولادة فاعل بشري جديد "إنسان الانترنيت "بعد أن اخذ الإنسان التقليدي "إنسان العصر الصناعي "يلفظ أنفاسه الأخيرة .إن هذه التحولات الجوهرية التي أحدثتها العولمة في مجرى الحياة ومسرى التاريخ تفرض علينا تحديات كبرى وتساؤلات مصيرية حول خصوصيتنا الثقافية ،هل هي نعمة أم نقمة ؟.سنحاول أن نستعرض جوانبها الايجابية والسلبية وتأثيراتها على هويتنا الثقافية .  
                              ربيع العولمة
العولمة ظاهرة حضارية من حيث انفجار التقنيات والثورات الالكترونية التي أحدثتها والتي استطاعت بها أن تكف الأبعاد وتطوي المسافات التي كانت تفصل بين المجتمعات والدول ،وان تهدم الحواجز التي تعيق الاتصال مع الآخرين وان تحطم الجدران التي تمنع الحوار مع الغير وان تحرر الأشخاص والمجتمعات من أغلال النرجسية الثقافية وان تطهر العقول والأفكار من قيود الانغلاق والتقوقع .لتعيد صياغة العلاقات الإنسانية على أساس التعاون المثمر بين الأمم والشعوب وتبادل المصالح والخبرات والثقافات .ومن الفضائل التي تتمتع بها العولمة هي التحرر من الاستعباد والجهل والتعصب الديني والقومي والعرقي واحترام حقوق الإنسان وهوية الفرد والديمقراطية والعقلانية والتقدم التقني وحماية البيئة والجنس البشري وغيرها من الأهداف النبيلة ،وهي تحث المجتمع الإنساني للسعي نحو السلام والأمن العالميين والمساهمة والمشاركة في بناء عالم أنساني أفضل يسوده الخير والسلام والرفاهية تحت إطار حضاري ترأسه هيئات دولية تعني بكل المشاكل التي تقلق الإنسان والإنسانية.هذا هو الوجه الايجابي للعولمة الذي يراود أحلام البشرية ويعزف على أوتار أمالها وتطلعاتها.

                      خريف العولمة
العولمة ظاهرة موضوعية ،الترحيب بها أو النفور منها غير مرهون بأمزجة الأفراد ولا يخضع لأي رغبة ذاتية ،لكن هذا لا يعني أنها حتمية ،فالتاريخ ليس به جبرية أو قدرية ، لكن لا يمكن الانسلاخ الكامل من عملياتها الجارية فهي ثمرة التقدم العلمي والتقني حيث تمنح فرص طيبة للتنمية لكن مساوئها تكمن في بعدها الإيديولوجي الذي يكرس التبعية والتهميش حيث تنطوي على أخطار الشركات الكوكبية العملاقة المتعددة الجنسيات وعابرة القارات التي تدعو الناس والمجتمعات نحو أتباع نظام السوق الحرة وفتح الأسواق والحدود أمام تدفق رؤوس الأموال والسلع والخدمات وإزالة القيود الجمركية وغيرها حيث تعمل على انهيار الدول التي تأخذ بنظام التخطيط الشامل للاقتصاد وسيطرة الدولة المركزية على وسائل الإنتاج وبالتالي تهميش دور الدولة القطرية كمقياس لتطوير اقتصاد الدول النامية .إن هذا النظام الجديدماهو إلا ناد يضم الأغنياء فقط حيث لا مكانة فيه للفقراء ،فهو مشروع سياسي واقتصادي يعمل على تدمير الاقتصاد الوطني ونهب ثروات الشعوب وخيراتها ،وبالتالي تركعيها سياسيا وعسكريا.فكيف تستطيع دول فقيرة تعاني من التخلف الاقتصادي والعلمي والتقنيان تنافس شركات جبارة تمتلك ناصية العلم والقدرة والثروة ،وهل يستطيع ملاكم من وزن الريشة أن يقاوم ملاكما من الوزن الثقيل ،وهكذا تتمركز الثروة بيد الأقلية التي يملك كل فرد من أفرادها مايعادل وارد عشرات الدول في حين أن الأغلبية الساحقة من البشر يفتك بها الجوع والفقر والبطالة والأمراض الناتجة عنها. 

                   العولمة والهوية الثقافية
الهوية الثقافية منظومة من القيم والمعايير والتصورات التي تشكل ذهنية الإنسان وتحدد مشاعره ووجدانه وسلوكه حيث تخلع معنى على وجوده وحياته ،ولكل مجتمع ثقافته التي تميزه عن باقي المجتمعات .وهي تكتسب الثبات والدوام لتجذرها في أعماق التاريخ وتأصلها في قاع اللاوعي الجماعي .إن الخطر الأكبر التي تحمله رياح العولمة ليس في بعدها الاقتصادي فقط وان كان قاعدتها الأساسية ،بل في محاولة العقلية الغربية وبالتحديد الأمريكية المصابة بهستيريا الغرور الثقافي والاستكبار الحضاري ،عولمة هويات الشعوب ،أو الاختراق الثقافي وإستراتيجية طمسها ومسحها من الوجود،بالترغيب أو الترهيب.ومن منطلق عقدة التفوق والاستعلاء التي تعاني منه يقذف بركانها الثائر حمم الاستخفاف والاستهتار بعادات وتقاليد وتراث الأمم.ومحاولة أمركة الحياة والمجتمع من خلال فرض نمط حياتها على التفكير والوجدان والذوق والسلوك .ويتم الترويج لهذه الأفكار عن طريق هيمنتها على كل المجالات التي تؤثر على حياة البشر ،الاقتصاد الالكتروني والمجتمع الإعلامي والمجال التلفزيوني والفضاء السبراني.

                       هل من إمكانية مقاومة زحف العولمة الثقافية ؟
لا ريب إن الحضارة الغربية بما لها من جاذبية تنبهر بها العقول قادرة على التأثير والاختراق حيث تنساب قيمها ومبادئها بشكل أو بأخر إلى كل المجتمعات ،والكثير من مظاهر حياتنا هي ثمرة هذه الحضارة .هذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان،والعولمة نتاج هذه الحضارة ،فلا ينبغي التعامل معها بعقلية أيديولوجية أو بقوالب فكرية جامدة حيث لغتها المقدسة هي الرجم واللعن لكل مايهدد ثوابتها ومطلقياتها ولا التخلي عن خصوصيتنا الحضارية باسم التقدم والتطور،فالرفض المطلق والقبول المطلق موقفان متطرفان وسلبيات نتائجها تكون وخيمة علينا بل نحاول دراسة هذه الظاهرة ، أي العولمة ،وتحليلها وفهمها موضوعيا واستيعاب منتجاتها المادية والفكرية التي تغذي وتنمي ذاتيتنا الخاصة ،فالثقافة الحية تزدهر وتنشط بقبول الأخر والانفتاح على الغير واللقاء والتبادل بين الأنا وألانت،ويتم إشهار الكارت الأحمر في وجه ثقافة السوق المبتذلة التي تهدد قيمنا وأخلاقنا .وتكميم عقول أطفالنا وشبابنا للوقاية من التلوث الإعلامي ووضع ضوابط لانسياب البرامج والمواد التي يكون لها اثر سلبي على المجتمع .وأخيرا نعم لعولمة تلاقح الثقافات وحوار الحضارات ولا لعولمة الاعتداء على الهويات والخصوصيات والقيم.                                                           Emmanuell_y_alrikani_2009@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق