الجمعة، 16 ديسمبر 2011

القومية والاممية نظرة عصرية

                        القومية والعالمية        بقلم        
                        نظرة عصرية    عمانوئيل يونان الريكاني                                                      

من بين الثنائيات التي يحفل بها قاموس الواقع البشري كالتراث والحداثة والعلمانية والدين والرأسمالية والاشتراكية الخ تبرز إشكالية اخرىبين قطبين آخرين وهي علاقة القومية بالإنسانية هل هي تجاذب أم تنافر تقابل أم تناقض وعلى هذا الأثر انقسم الناس إلى فئتين متعارضتين الفئة الأولى ترى أن القومية نهاية المطاف للاجتماع البشري مع تجاهل تام للبعد العالمي أما الفئة الثانية أي أنصار العالمية فترى إن عصر القومية عفا عليه الزمان وان عقارب الساعة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء وان اللاقومية هي العلامة الفارقة للدخول إلى العالم الجديد سنحاول في هذه المقالة عرض ونقد هاتين النزعتين المتطرفتين وتبيان انه لا تعارض بين القومية والعالمية وإنما هي إشكالية مصطنعة ليس إلا

                             النزعة القومية المتطرفة
لا ريب إن مسالة القومية معقدة ومركبة في إن واحد وفيها من الغموض قدر لا يستهان به حيث تباينت الآراء واختلفت وجهات النظر حولها لكن بالرغم إفلاتها من جاذبية التعريف والتحديد وعدم الإجماع على أعطاء هوية ثابتة لها يبقى هناك قاسم مشترك بين المنظرين وخطوط عامة تجمعهم وهي اعتبار الخصائص اللغوية والثقافية فصيلة دمها وقلبها النابض
في التاريخ المشترك والمصالح المشتركة والمصير المشترك والتكوين النفسي الواحد أي الاعتزاز القومي بكل مظاهر لدى كل الشعوب شعور حقيقي لا يختلف عليه اثنان ويستفحل هذا الشعور ويقوى عوده عندما يحس شعب ما أن هناك خطرا خارجيا يهدد وجوده وكيانه أن كان احتلالا عسكريا أو غزوا ثقافيا أن المنظومة البينية من لغة ـ ثقافة ـ ارض  الخ هي العناصر التي يستمد منها الفرد والجماعات سمات هويتهم المميزة وملامح شخصيتهم الفريدة والتي هي بمثابة بصمة لا يمكن أن تتكرر إن الجانب السلبي لهذه النزعة المتطرفة هو في نظرتها الغيبية واللاتاريخية إلى القومية باعتبارها فكرة ثابتة تعلو على حركة التاريخ والمجتمع والتي تحولت لدى أنصارها إلى معبود أو اله أن هذه النظرة يدحضها الفكر السليم ولا تصمد أمام المنطق الصحيح لأنه لا يوجد شيء ثابت فكل شيء متغير لان التغيير قانون الحياة كما قال الفيلسوف الإغريقي هيرقليطس لا احد يستطيع أن يسبح في نفس النهر مرتين هذا مايثبته العلم ويؤكده الواقع وان القومية كاجتماع بشري لا يمكن أن تستثنى  من هذه القاعدة فهي لم تولد كاملة ولم تنزل من فوق إنما تسلمت بيان الولادة من الواقع البشري وأخذت شكلها الحالي بعد أن مرت بمراحل في حضن التاريخ من الفردية العائلية ... الاجتماعية فهي ككرة الثلج تزيد كتلتها ويكبر  حجمها من خلال حركتها وتدحرجها أن اعتبار القومية خاتمة الاجتماع البشري حيث تقف عندها دقات قلب التطور وبالتالي بتر البعد العالمي منه يعني السقوط في النزعة الشوفينية التي تتحول فيها إلى فكرة صنمية ومشوهة بعد تجردها من ثوبها الإنساني والنازية نموذج لهذا التطرف حيث شعار الدولة الألمانية (في البدء كان الألماني ) أو (ألمانيا فوق الجميع ) ذات الإيقاع الاستعلائي والاستكباري وتقديس العنصر الآري وتبخيس الآخرين كان السبب في الكارثة التي حلت بالبشرية راح ضحيتها ملايين من الأبرياء والتي ليست بغريبة على القارئ والنموذج الأخر هو الصهيونية المبنية على فكرة عنصرية والتي امتزجت فيها الديانة بالقومية وأصبحت قومية دينية أو ديانة قومية والمصابة بعقدة شعب الله المختار والتي كانت السبب في قتل وتشريد وتهجير شعب من أرضه .9        النزعة العالمية المتطرفة
أزالت الثورة المعلوماتية الحواجز الطبيعية التي تفصل بين الدول والمجتمعات والموانئ الفكرية والثقافية التي تبعد بين الأمم والشعوب هذا إن دل على شيء فإنما يدل على ما لهذا الواقع الجديد من صدى عميق في نفوس البشر للاتصال الفكري والنفسي بينهم بعد التحليق عاليا فوق الفرو قات الفردية والثقافية والاجتماعية إن الدعوة نحو العالمية مشروع حياتي كبير يتحتم على كل فرد وجماعة مساهمة منهم التبرع من عقلهم وعواطفهم ووجدانهم وحواسهم لإقامة هذا الصرح الإنساني العظيم إلى هنا تعتبر هذه الدعوة ايجابية ومقبولة لكن المفارقة تكمن في تجاوزها الخطوط الحمر حيث تنادي بإذابة الوجود القومي في أتون نيرانها وباسم الحداثة والعصرنة تحاول سلخ الأفراد والجماعات من جلدهم واستئصالهم من جذورهم وقطع خطوط الاتصال من تاريخهم العريق وتجريدهم من هويتهم التاريخية وزرعهم في تربة غير تربتهم وإعادة تشكيل هوية لهم كأنهم عجين تصنع منه ماتشاء خبزا أو كيكا ومتى تشاء إن هذا لعمري اقرب منه إلى الحلم والخيال منه إلى الواقع والحقيقة إن الإصابة بفقدان الذاكرة التاريخية وقطع الحبل السري الذي يربط الفرد بماضيه المجيد يعني توقف تدفق منابع الحياة فيه وبالتالي جفافه ويبوسه والموت الزؤام (في البدء كانت الممانعة)9هذا لسان حال أي جماعة بشرية تأبى أن تكون نسخة من الغير أو تذوب في كيان الآخرين هذا إن لم يكن الغرض من هذه الدعوة هو قتل الشعور القومي وإضعاف روح الجماعة خدمة للامبريالية العالمية في تحقيق معالمها الاقتصادية والسياسية
                      القومية والعالمية صراع وتوازن  
إن التناقض بين القومية والعالمية بدعة مزعومة لاتستند إلى أي أساس علمي والسبب كامن في الرؤية الأحادية إلى الوجود والإنسان التي ترى إن الحياة اسود وابيض وان الخير كله في والشر كله في الأخر إن هذه الرؤية المتطرفة دفعت البشرية ثمنها غاليا من حروب ونزاعات وخصومات مازالت تعاني ويلاتها إن المنطق المعاصر أو الرؤية الجديدة تنطلق من مبدأ (خير الأمور أوسطها) أي الاعتدال في كل شيء فالشجاعة وسط معتدل بين الجبن والتهور وبين الشتاء والصيف هناك فصل الاعتدال أنها رؤية أكثر شمولية وديناميكية لأنها ترى في الشيء الواحد ماهو ايجابي وما هو سلبي أي إن كل فكرة تحمل في رحمها نقيضها والصراع بينهما يؤدي إلى التوازن وخلق واقع جديد مركب من هذه الفكرة والنقيض حسب الجدل الهيجلي أي ليس هناك صراع لنبذ الأخر وإقصائه من دائرة الوجود باعتباره معوقا لحركة الفكر والحياة وإنما هي الثنائية الانسجامية التكاملية تكمل بعضها بعضا كالليل والنهار والدنيا والآخرة والفردية والجماعية  الخ وغيرها من الثنائيات إن الفرد ليس كيانا مغلقا أو جزيرة معزولة إنما شبكة من العلاقات فيه الاتصال والانفصال فتراث الإنسانية من فلسفة وفكر ودين وأدب وفن كالفلسفة اليونانية وملحمة كلكامش وقصص ألف ليلة وليلة وغيرها من روائع الأدب العالمي التي تنبض بالحياة ما زالت محفورة في ذاكرته لأنها تخاطب العنصر الإنساني فيه الذي يشترك به مع غيره من بني جنسه برغم إن هذا النتاج ذو صبغة محلية لا يستطيع الفكاك منها  لهذا فالقومية( الأم المرضعة) للإنسانية ووجهان لعملة واحدة وجود احدهما مرهون بوجود الأخر

                                                    Emmanuell-y-alrikani-2009@yahoo.com     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق