الجمعة، 16 ديسمبر 2011

الديانة كائن حي

الديانة كائن حي                       بقلم عمانوئيل يونان الريكاني
                                                                   

تمر الديانة أيضا كالإنسان بمراحل حياتية ثلاث : الطفولة والمراهقة والنضوج ولكل مرحلة من هذه المراحل المتعاقبة والمتداخلة خصوصيتها العقلية والنفسية والانفعالية وتتسم بطابع خاص وأسلوب مميز في النظر إلى الحياة والتعامل مع مقتضيات الواقع.بما إن الحياة مليئة بمواقف ومشاكل ومفاجآت تتطلب معالجتها درجة عالية من النضوج الفكري والنمو الروحي فلا جدوى من الأساليب الطفولية والمراهقة لأنها تقف عاجزة عن مواجهة المشاكل والتغلب عليها بل بالعكس قد تعيق بالتالي انطلاقة الديانة وتقدمها.في مقالنا هذا نحاول تسليط الضوء على شكلين من أشكال الديانة الشبيهين بما يحدث للفرد في مرحلتي الطفولة والمراهقة والدور السلبي لهاتين المرحلتين في تعطيل إمكانية البناء والوصول إلى النضوج والانفتاح وبالتالي خطورتهما على حركة المجتمع والتاريخ وحاجات الناس والحضارة إلى ديانة منفتحة تعيد صياغة الحياة على أساس الإنسان كقيمة مطلقة .
الديانة الطفولية:
يخبرنا الكتاب المقدس في مطلع سفر التكوين إن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله ولكن في الحقيقة والواقع قلب الإنسان هذه المعادلة رأسا على عقب وحاول في اغلب الأحيان أن يعكس على الله صورته هو ومثاله وذلك من خلال الفكرة التي يحملها عن الله في داخله والتي كثيرا ماتكون انعكاسا لمخاوفه ومشاكله وأمراضه النفسية فالإنسان غالبا مايكون سجين رغباته ومخيلته ولذا يتعرض دوما لتجربة إقامة اله له يكون على مثاله ومقياسه ولعل أول من كتب عن هذه الحالة كان الفيلسوف والمؤرخ زينوفون ( حوالي ـ426ـ354 ق.م ) :إن الآلهة من اختلاق البشر .فالحبشي يتخيلها سودا والتراقي ( شمال اليونان حاليا ) يجعل لها عيونا زرقا ولو كان للبقر والخيل إلها لأعطتها شكل جنسها .لقد تأثرت صورة الله في أذهان الكثير من الناس بما هو مطبوع في نفوسهم فعكسوا عليه العنف والهيمنة التي لديهم فقالوا انه اله قوي ومنتقم وديان يأمر وينهي ويحدد الحلال والحرام وينظم لائحة المسموحات والممنوعات  ويراقب كل صغيرة وكبيرة في حياتهم وما عليهم سوى الطاعة والخضوع والا متثال لأوامره القاسية والا تعرضوا إلى عقاب شديد في الدنيا والآخرة .   
لقد انكب التحليل النفسي على هذه التصورات محللا :انه يمكن إرجاع هذه النظرة إلى الله إلى فترة الطفولة حيث يشكل الإله بديلا عن الأب الذي هو رمز السلطة والقدرة عند الطفل وهذا يفرض عليه حالة من الاعتماد والاتكالية والخضوع وفقدان الأنا الشخصي و عندما يكون الطفل مفتقرا إلى حب البالغين وتقديرهم وبعيدا عنهم من المحتمل إن يرى فيهم مخلوقات خيالية قادرة على كل شيء. نحن إذن حيال انتكاسة ترجع الفرد إلى فترة بدائية من تكوين الأنا ويقوي هذا الميل لديه المواقف التي فيها يفقد سيطرته على العالم الخارجي نتيجة لاصطدامه بعقبات ذاتية أو موضوعية لا يقوى على تخطيها . فألانا هنا يظل يراوح في مكانه في عالم السكون المطلق ولا تستطيع الشخصية أداء وظيفتها بشكل صحيح أي أيجاد وسائل ايجابية للسيطرة على العالم لأنها لم تتغذى من مبدأ الواقع ولم تتفاعل مع محيطها الخارجي .أن هذا الشكل من التدين يخلق أنسانا ضعيفا وتبعيا وخائفا على الدوام فكل امرئ في حاجة إلى الثقة بالنفس والاستقلال والأمن وهذه هي اللبنات الأساسية لبناء شخصية سليمة روحيا ونفسيا واجتماعيا ولولا ذلك يستفحل في هذه الشخصية الشعور بالنقص أو بالذنب من جراء شبح الخوف من فعل الخطيئة الذي يخيم على هذا الإنسان لعدم مقدرته على تكملة كل متطلبات الإيمان مما يجعله فريسة سهلة لأمراض كالقلق والكآبة ويعاني من جفاف فكري وقلق روحي وأنساني .حينئذ تخمد شعلة ضميره وتنطفئ جذوة حسه الأخلاقي الداخلي ليصبح مثل روبوت (إنسان آلي ) مبرمج على أل يجب وال اللازم وال مفروض ويقتفي فيها اثر الآخرين تابعا ويسير على خطاهم بدون إجهاد فكره ولا بحث أو تساؤل .فتموت فيه بذرة الخلق والإبداع التي هي حاجة إنسانية وحضارية ويعيش الإنسان حينئذ في اغتراب دائم عن نفسه وسيعاني استنزافا عميقا في طاقته من جراء الأنا المستلب والمستعبد والمحتل ويتحول الدين إلى مجرد طقوس وممارسات شكلية لا روح فيها ولا حياة حيث يكون مركز الثقل فيه من جوانب قانونية أو تنظيمية أو نمطية فقط . الديانة المراهقة :تمر الديانة أيضا في فترة المراهقة حيث تستحوذ عليها طبيعتها الانفعالية والعاطفية وتهيمن على روحها التمرد والثورة فيفتقر المراهق في هذه المرحلة إلى الاتزان والاستقرار والموضوعية في التفكير إذ يتجاهل الواقع بكل ثقله وكثافته ويصم إذنيه أمام نداءات العقل والمنطق لتوجه دفة حياتها بوصلة الحماسة والاندفاع وعلامته الفارقة احتكار الحقيقة المطلقة وشعاره أحادية النظرة إلى الحياة فهي مصابة بعمى الألوان لا ترى من الدنيا غير الأسود والأبيض فقط سمات المراهق إذن تكمن في العناد والسلبية ولغتها المقدسة هي الانتقاد والتهكم والهجوم على كل من لا يجاريها فكرا وعملا أنها ديانة متقوقعة على نفسها منغلقة على ذاتها تسد كل منافذ الاتصال مع الآخرين وتقطع كل خيوط الحوار معهم لتنام على وسادة مريحة من الضمانات التي أحاطت نفسها بها .ديانة كهذه ستعاني من تشنجات عقلية واضطرابات نفسية وتشكل خطرا على المجتمع الإنساني لأنها تنفث في ذلك المجتمع سموم التعصب والكراهية والضغينة. الديانة الناضجة : يقول خبراء النفس والتربية إن سمات الشخصية السوية هي التحرر من رواسب الطفولية والمراهقة التي تهدد الاتزان الأساسي فهذه الرواسب تمنع من الوصول إلى وحدة الكيان والانسجام بين الميول المتصارعة في النفس وهي تمنعها عن التكيف مع الواقع وشق الطريق في الحياة بثقة عالية واقتدار كبير الديانة الناضجة إذن هي تلك التي تكسر اطر الرؤى والتصورات الخاطئة عن الله أي التي صنعناها عن أنفسنا على مدى تاريخنا البشري وكل مراحل حياتنا الشخصية خصوصا إذا ثبت إن التصورات لم تكن متطابقة مع الواقع إن الديانة الناضجة ترد إلى العقل اعتباره كقوة قيادية للفهم والإدراك وكعنصر من عناصر المعرفة الديانة الناضجة تعمل بمبدأ (امن لتفهم وافهم لتؤمن ) وبذلك  تتجاوز صنمية قد تقع فيها الشرائع والقوانين والأنظمة والأعراف لترتقي فتتغذى من الاختبار الذاتي لحضور الله وتتذوقه كفرح وكبعد أساسي وجوهري من إبعاد حياتنا الإنسانية والروحية قال الكاتب الفرنسي بلزاك ( عندما أصبحت أبا عرفت ما هو الله )أي إن خبرة الأبوة تنعكس في خبرة الله العميقة وتنبذ كل طاعة عمياء ينتحر على مذبحها فكر الإنسان وحريته فلا نجعل من الله إلها نفعيا يخدم حاجاتنا الاجتماعية أو إلها اغتصبت حقوقه وأوكلت ألينا عملية استردادها حتى ولو بالقوة والعنف فالأب الحقيقي يحترم الاختلاف في أولاده خلال مراحل نموهم ويحنو على معتقداتهم وأفكارهم وأرائهم حتى أن كانت ناقصة لأنها مصدر غنى وخصب وإثراء فجمال الأشياء يكمن في تنوعها وعليهم إن يقلعوا عن أسلوب الدفاع والإقناع ويلجئوا إلى حوار شهادة يشهد فيها كل واحد من المتحاورين على إيمانه وتكون أخلاقه مصداقية لديانته بما يتحلى به من فضائل وأفعال ومن خير وصلاح أن في كل ديانة مهما كانت درجة رقيها في سلم الديانات قيما إنسانية ايجابية فهي تحث إتباعها على مزيد من أفعال العدالة والرحمة من هذا المنطلق ينبغي ممارسة عملية التطهير بنار العقل ونور الإيمان لإزالة البقع السوداء التي نتركها على وجه الله تعالى فنبرز انطلاقا من حبه وأبوته هيئته البهية فيزاح الغبار هكذا عن الديانة وتعود أليه الهيبة والوقار رسالة الدين الجوهرية إذن هي خلاص الإنسان وتحريره من جميع العبوديات التي تقف عثرة أمام تحقيق الإنسانية والديانة دعوة إلى الحرية والمساواة والإخاء بين الناس وإشاعة محبة وتسامح وسلام بين بني البشر لان الله واحد وهو اله جميع البشر بدون تمييز في اللون والجنس أو القومية والمعتقد المحبة هي هوية الديانة الحقيقية ومقياس حكمها على البشر والفصل النهائي بين الصالحين والطالحين كما أن المحبة والحرية والسلام هي من معالمها الحقيقية وهذه هي الحقيقة المطلقة التي تستقطب عقولنا وقلوبنا فنعيش تحت ظلالها من دون أن نمتلكها نحن بل هي التي تمتلكنا يعجز أي قانون أو شريعة عن شرح ذلك أو استيعابه ولا تستطيع كلماتنا البشرية الفقيرة الإحاطة به علما فالله سيبقى القريب والبعيد الحاضر والغائب المعلوم والمجهول الذي يفلت من يدنا ويتسرب من سيطرتنا وفي هذا الفلك كله يدور الإيمان الحي .                       

                                                                                                             Emmanuell-y-alrikani-2009@ yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق