الجمعة، 16 ديسمبر 2011

في البدء كانت العلمانية

         في البدء كانت العلمانية               بقلم
                                                                                      عمانوئيل يونان الريكاني                   

مقدمة
تعتبر العلمانية محصلة منطقية لصراع طويل يخوضه الإنسان منذ قدم التاريخ من اجل الحرية والتحرر ضد الاستبداد والتسلط .وهي ظاهرة تاريخية أحدثت انقلابا ثوريا وتغييرا جذريا في مجال الفكر والسياسة بعد أن تم فصل السلطة السياسية وإزاحة العقلية الدينية عن محوريتها الثقافية وإحلال محلها مرجعا فكريا جديدا للتاريخ والحياة العامة . إن حركة المجتمع والتاريخ آيلة أليها لا محالة وذلك بما تحمله من قيم العقل والحرية والديمقراطية والمساواة التي هي من مقومات بناء أنساني سليم للمجتمع والحضارة . إن مفهوم العلمانية غني جدا وواسع ومعقد ولا يمكن حصره في بعض المقولات والعبارات ، ولقد أسال بحارا من الحبور لا تستطيع هذه الأسطر القليلة إيفائه حقه .فهي محاولة متواضعة وسريعة منا لاستعراض جوانبها اللغوية والتاريخية والفكرية وكنقطة التقاء المسيحيين والمسلمين وإزالة الخوف وسوء الفهم من النفوس والعقول التي أساءت الظن بها وتبيان قصور العلمانية المتطرفة ( الملحدة ) الضيقة الأفق في التعبير عن أبعاد الحياة الإنسانية وحاجة الإنسان والمجتمع إلى علمانية معتدلة ومنفتحة على الدين تحترم البعدين الروحي والزمني في الإنسان لخلق التوازن مع الذات ومع العالم كخشبة خلاص لا بديل عنها .
                             معنى المصطلح
إن تاريخ دخول العبارة إلى اللغة العربية وكيفية اشتقاقها غامض وغير معلوم ،وهل كان الاشتقاق من العلم ( علمانية بكسر العين ).. أم من العالم ( العلمانية بفتح العين بناءا على اشتقاق غير سليم )،نجد أحيانا النصوص لفظة علمانية قد تكون مشتقة من علم scienceفتشير بالأحرى إلى العلموية scientism لا العلمانية .فالكلمة العربية التي تعرب كلمة secularite أو secularism هي علمانية التي تشير إلى العالم الزمني في تميزه عن العالم الروحي وكثير من المؤلفين يستعملون هذا المعنى الأخير .

                            الجذور التاريخية للعلمانية
من نافل القول إن مسقط رأس  العلمانية في الغرب المسيحي حيث مرت في مخاض عسير وألام الولادة إلى أن نمت وترعرعت واكتملت بشكل أكثر انتظاما في فرنسا في القرن التاسع عشر .لم يكن الطريق سهلا ومفروشا بالورود أمام دعاوي الفكر الحر ،فقد اصطدم بأنصار الفكر القديم والأوساط الدينية المتزمتة .فعلاقة الكنيسة بالدولة كانت متذبذبة ومتشنجة ولم تكن على وفاق دوما ودار بينهما صراع استمر فترة طويلة ومر بمراحل إلى أن استطاعت العلمانية أن تتربع على عرش التاريخ بعد أن سلمها الواقع تاج الملوكية وصولجان القيادة .وفي عصر التنوير الذي يعتبر الأساس الفكري للعقلية المعاصرة ... ظهر على مسرح التاريخ كوكبة من المفكرين اللامعين والعلماء البارزين دعوا إلى الاحتكام لسلطان العقل والتحرر من وصايا الكنيسة مثل ديكارت ومكيافيللي وكوبرنيكوس وفولتير وغيرهم لا مجال لذكرهم وهكذا أخذت أوربا تتحرر تدريجيا من النظرة المسيحية الوسيطة وبدأت تتكون الحداثة الغربية .
                    المسيحية والعلمانية   
ليس هناك تناقض بين المسيحية والعلمنة وان الغوص في جوهر العلمانية يزيل عنا  الخلاف الناجم عن الفهم السطحي لها .لنتعرف عن كثب على سمات كل من الدين والدنيا قبل الدخول في صلب الموضوع .لا يمكن حصر الدين في تعريف واحد( جامع مانع )فتعار يفه كثيرة نحاول أن نستشف منها الخطوط العامة المشتركة ،فالدين نسق من المعتقدات والعبادات والقواعد الأخلاقية والنظم الاجتماعية يشكل الإيمان نواته الأصلية فهو أي الإيمان وديعة يكشفها الله للبشر والإنسان مدعو إلى اتخاذ موقف حر وواع وقرار شخصي ومسؤول إزاء هذا النداء الإلهي .وتقوم الأنظمة الثقافية بتشكيل قالب ديني يعبر عن هذا الإيمان ( وهكذا يبدو الدين كأنه التعبير عن الإيمان ) .أما الدنيا فهي واقع الحياة البشرية بمجملها تمثل الدولة أو الحقل السياسي قمة هذا الواقع حيث إدارة شؤون الناس وتوفير الحماية والأمن لهم من صميم وجودها وفلسفتها.إذا لا يوجد نشاط ديني أو دنيوي بحد ذاته ومستقل استقلالا كاملا عن الأخر فقصد المطلق هو الحد الفاصل في تحديد هوية النشاط فلا فصل كياني بين الدين والدنيا ولا تناقض جوهريا بين الإيمان والسياسة .إن جواب يسوع (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله )أسيء فهمه من قبل الكثيرين لان هذه العبارة لا تعني الطلاق النهائي بين ملكوت الله وملكوت قيصر ولا الفصل التام بين الدين والدولة فهذا مستحيل واقعيا وإنسانيا .إن يسوع يميز بين المملكتين دون ذوبان أو ابتلاع أحداهما الأخرى فهو يحث الإنسان على المحافظة على صورة الله المحفورة في أعماقه دون إهماله مطاليب قيصر وواجباته تجاه الدولة بشرط إن لا تمتهن كرامته الإنسانية إن الإيمان ليس نظريات مجردة تحلق في الفضاء بعيدة عن ارض الواقع انه تجسيد حي وممارسة فعالة لكل القيم الروحية والأخلاقية داخل المجتمع للعمل على تغييره وتطويره نحو الأحسن والأفضل .فلكل من الدين والدولة مجاله الخاص وأساليبه المتنوعة لاستنهاض طاقات الإنسان الخلاقة وقدراته المبدعة خدمة للتقدم الاجتماعي والتطور الحضاري .  
                   الإسلام والعلمانية
  بين تيارين متشددين وموقفين متطرفين من العلمانية الأول يرفضها جملة وتفصيلا لأنها حسب رؤيته تتناقض مع الإسلام والثاني يعد من أنصارها ويأخذها على علاتها دون فحص عقلاني أو تحليل علمي سوى الانبهار بها والانجذاب إليها سواء توافقت مع الإسلام أم لا .يبرز اتجاه ثالث معتدل يجمع بين الإسلام والعلمانية من خلال رؤية واقعية وموضوعية بعيدة عن الأحكام المسبقة وبمرونة عقلية وفكرية يقدم الإسلام بحلة جديدة وثوب عصري فهو دين التطور والتجدد هذا مايقوله الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجد د لها دينها )( رواه أبو داود ) فهو أيضا دين العقل والعلم لأنه يحث المسلمين على طلب العلم والمعرفة من أي مصدر كان فلا تجنيس للفكر والعلم طالما كان في خدمة الحقيقة والإنسان فالحضارة العربية الإسلامية ارتشفت حتى الثمالة من كاس الحضارتين الإغريقية والرومانية وتفاعل الحضارات قانون الحياة وسنة التاريخ .
يرى الدكتور محمد احمد خلف الله إن الإسلام ينكر أن تكون هناك سلطة دينية لها حق التشريع الديني أو الحكم نيابة عن الله الأمر الذي يشير إلى أن القران يقف إلى جانب العلمانية .....وان الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه الموسوم (الإسلام وأصول الحكم) ينفي العلاقة بين الإسلام كدين والخلافة كأسلوب للحكم .وان الشيخ خالد محمد الخالد في كتابه (الديمقراطية ابدأ) يميز بين الشريعة والدين فهو حدد الثوابت في العقيدة التي لا يعتريها التغيير كالصلاة والصوم والإيمان بالآخرة بينما الشريعة هي نتاج تاريخي خاضع لمنطق التغيير والتبديل حسب مستجدات الحالة الراهنة ومتطلبات العصر ومن منطلق مصلحة الجماعة وبهذا الفصل بين الشريعة والعقيدة لا يوجد تناقض بين الإسلام والعلمانية .إن جوهر العلمانية وهدفها الأساسي يكمن في تقديسها للشخص البشري وذلك من خلال ضمان حرية العقيدة فالكل متساوون أمام الله والقانون المؤمن والغير المؤمن لان قيمة الإنسان في إنسانيته وليس في موقعه الديني ولا يجوز في أي جهة كانت وتحت أي مسوغ ممارسة الضغط والإكراه ولا إرغام الآخرين على تغيير معتقداتهم في الحياة لأنها تتنافى مع كرامة الإنسان هذه كلها تتفق مع تعاليم الإسلام بشان حرية العقيدة (لا إكراه في الدين )أل عمران256 (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف 29 .على الرغم من اختلاف التسميات لكن يبقى المضمون واحدا إن العلمانية استجابة لنداء القلب البشري المتعطش إلى الحب والحرية والحد من سلبيات الدولة الدينية التي أفرزتها ثقافة وحضارة بائدة عفا عليها الزمان حيث كان الحاكم يستمد سلطانه من الله حسب نظرية الحق الإلهي في الحكم والتي كانت وراء طغيانه واستبداده وحيث اذكت نار الانقسام والتفرقة والتجزئة بين الأديان والمذاهب والطوائف والتي مازلنا نعاني ويلاتها حيث كانت السبب الرئيسي لتخلفنا عن موكب التطور والتقدم ولوضع حجر الأساس لبناء دولة عصرية على أساس ديمقراطي اشتراكي يكون شعارها ( الدين لله والوطن للجميع )لان الدولة كما يرى الدكتور فرج فوده (الدولة كائن معنوي لا يتدين لان التدين ظاهرة تخص الأشخاص الطبيعيين ) وان شعار (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة )لا تعني إبعاد الدين عن تنظيم المجتمع بل الحفاظ على صفاته وروحه ضد كل أشكال التسييس والاستخدام المشوه من قبل البعض لأنه كثيرا ماكان أداة استغلال بيد الحكام المستبدين لتحقيق مكاسب مادية وأهواء شخصية أو لتغطية فشلهم السياسي والتستر على ظلمهم الاجتماعي والاقتصادي وان كسر القالب الاجتماعي للدين هو تحريره من اسر أللياقات الاجتماعية التي وضعته في خانة الشكليات والسطحيات ولإعطاء بعد شخصي له مبني على قناعة دينية عميقة وإيمان حي فعال يسهم في بناء الذات وتطوير المجتمع وتقدم الحضارة وفي مسك الختام قد تختلف وجهات نظر الناس في تقويم الفكر العلماني لكن المكتسبات العظيمة والمنجزات الرائعة التي حققها على ارض الواقع في بعض البلدان يضع حدا لهذا الخلاف (فالشجرة تعرف من ثمارها ).
الدين والعلمانية
إن إيجاد فجوة بين العقلية الدينية والعقلية العلمانية يشكل خطورة على هوية الإنسان الحقيقية فإزاحة إحدى هاتين الظاهرتين الدينية والعلمانية من مسرح الحياة ليس حاجة إنسانية وحضارية إنما زيف إيديولوجي فبين الدين والعلمانية صلات رحم ووشائج قرابة لان انسنة الإنسان هي الاوميغا التي تتجه إليها إنسانية العلمانية والمحبة المسيحية والعدل الإسلامي وان في التجاذب والتالف بينهما عنوانا للرقي الإنساني والنهوض الحضاري وحلا لكل المشاكل التي تقلق الإنسان وان القيم الأصيلة كالعدالة والحرية والمساواة بين المواطنين والتي رسختها العلمانية في قلب التاريخ وأعماق الإنسانية .بعد إبادة آفة المجتمع الإنساني التعصب الديني والطائفي والعرقي تتفق مع روح الإنجيل وقيم الإسلام في الدعوة إلى الخير والسلام والمحبة والوئام والعدل بين بني البشر هكذا يتحدد الموقف السليم للعلمانية المعتدلة في رد اعتبار للدين بوصفه عنصرا من عناصر الوعي الإنساني ،وليس طورا بين أطوار الوعي كما صورته وضعية اوغست كونت واحد أهم رافد من روافد الثقافة البشرية والمنتج الأعلى للقيم الإنسانية السامية الذي كان ومازال حارس الأخلاق والقيم والدافع الأول عن قيمة الإنسان المطلقة ضد كل الفلسفات والإيديولوجيات التي تحاول أن تحط من شانه وتحويله إلى شيء أو مادة أو موضوع فقط .فالدين ليس قشرة خارجية يمكن إزالتها بسهولة كما توهم البعض لان المجتمع البشري بناء معقد يتكون من مؤسسات متشابكة ومتداخلة وذات علاقة بنيوية فيما بينها ويعتبر الدين جزءا من النسيج الاجتماعي والحضاري لأي امة وهو القلب النابض لذاكرة أي جماعة لذلك لا يمكن بجرة قلم انتزاعه من نفوس الجماعة ووعيها التاريخي .إن حيوية الواقع لا تقوم على استبعاد العناصر المكونة له كما صورته علمانية القرن التاسع عشر المؤدلجة ( المتطرفة )بل في صراع وتوازن هذه العناصر الذي يتألف منها الواقع الإنساني والاجتماعي لذلك لا يمكن فصل الدين عن الحياة ولا المقدس عن الدنيوي بل الاحتواء المتبادل لهذه المتناقضات هو عصب الحياة وروح الوجود .ولهذه تعد العلمانية وبحق اكبر ظاهرة حضارية أنجبتها العبقرية الإنسانية وواحدة من أهم الفتوحات البشرية .      


                                                Emmanuell_y_alrikani_2009@yahoo.com  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق